الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
ومنفعة الميسر ما يصيبهم من أنصباء الجزور. وذلك أنهم كانوا يياسرون على الجزور، إذا فلج الرجل منهم صاحبه نحره، ثم اقتسموه أعشارا على عدد القداح.وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما لأنهم كانوا إذا سكروا وثب بعضهم على بعض، وقاتل بعضهم بعضا، وإذا قامروا وقع بينهم الشر، كما قال تعالى: {إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91)} [المائدة: 91].سبب نزول هذه الآية: اختلف العلماء في سبب نزولها، فروى الترمذي أن عمر رضي اللّه عنه قال: اللهمّ بيّن لنا في الخمر بيان شفاء، فنزلت الآية التي في البقرة {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} الآية فدعي عمر فقرئت عليه. فقال: اللهم بيّن لنا في الخمر بيان شفاء، فنزلت التي في النساء {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى} [النساء: 43] فدعي عمر رضي اللّه عنه فقرئت عليه، ثم قال: اللهم بيّن لنا في الخمر بيان شفاء. فنزلت التي في المائدة {إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} إلى قوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} فدعي عمر رضي اللّه عنه فقرئت عليه، فقال: انتهينا انتهينا.وروى ابن جرير عن زيد بن علي قال: أنزل اللّه عز وجل في الخمر ثلاث مرات، فأول ما أنزل قال اللّه: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما} قال: فشربها من المسلمين من شاء اللّه منهم على ذلك، حتى شرب رجلان، فدخلا في الصلاة، فجعلا يهجران كلاما، لا يدري عوف ما هو.فأنزل اللّه عز وجل فيهما: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ} فشربها من شربها منهم وجعلوا يتقونها عند الصلاة، حتى شربها فيما زعم أبو القموص فجعل ينوح على قتلى بدر بأبيات منها:تحيّي بالسّلامة أمّ عمرو وهل لك بعد رهطك من سلام ذريني أصطبح بكرا فإني رأيت الموت نقّب عن هشام وودّ بنو المغيرة لو فدوه بألف من رجال أو سوام قال: فبلغ ذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، فجاء فزعا يجر رداءه من الفزع، حتى انتهى إليه، فلما عاينه الرجل، رفع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم شيئا كان بيده ليضربه قال: أعوذ باللّه من غضب اللّه ورسوله، واللّه لا أطعمها أبدا، فأنزل اللّه تحريمها: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ} [المائدة: 90] إلى قوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} فقال عمر بن الخطاب: انتهينا، انتهينا.وقد ذهب بعض العلماء إلى أن آية البقرة لا تقتضي التحريم، ولذلك شربها بعض الصحابة بعد نزولها، كما هو ظاهر الروايات.وقال بعضهم: إنها تقتضي التحريم، لأنّ اللّه قال: {فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ} وقد حرم اللّه الإثم بقوله: {إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ} [الأعراف: 33] وإنما شربها من شربها متأوّلا.ما هي الخمر؟اختلف العلماء فيما هي الخمر، فذهب مالك والشافعي، وأحمد، وأهل الحجاز وجمهور المحدّثين إلى أنها الشراب المسكر من عصير العنب وغيره، فالشراب المسكر من عصير التمر، والشعير، والبرّ خمر.وقال العراقيون: أبو حنيفة، وإبراهيم النخعي، وسفيان الثوري، وابن أبي ليلى، وشريك وابن شبرمة: الخمر من الشراب المسكر من عصير العنب فقط، أما المسكر من غيره كالشراب من التمر أو الشعير فلا يسمّى خمرا، بل يسمّى نبيذا.ولمّا ذهب الحجازيون إلى أن الخمر اسم لكل ما أسكر- سواء أكان من عصير العنب أم من التمر، أم من الشعير أم من غيره- كانت هذه كلّها حراما، بالآيات التي وردت في تحريم الخمر. وكانت كلّها سواء في التحريم، قليلها وكثيرها.ولمّا ذهب الكوفيون إلى أن الخمر اسم لما اتّخذ من عصير العنب فقط- كان المحرم بالآيات ما يطلق عليه اسم الخمر، وهو المسكر من عصير العنب، أما ما اتخذ من غيرها- وهو المسمى نبيذا- فليس بداخل عندهم في تحريم الخمر، وقد بحثوا له عن حكم في السنة، فوجدوا أنّ القليل الذي لا يسكر من الأنبذة حلال، وأنّ المسكر منها هو الثالث دون الكأسين.وقد استدل الحجازيون لمذهبهم بأنّ اللغة والشرع يدلّان على أنّ المسكر من الأنبذة يسمّى خمرا، أما اللغة فلأنّ الاشتقاق اللغوي يرجّحه. وهو أنها سمّيت خمرا لمخامرتها العقل، وهذه الأنبذة تخامر العقل، وهذا ضعيف، لأن اللغة لا تثبت قياسا.وأما الشرع:فقد روى مسلم عن ابن عمر أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «كلّ مسكر خمر، وكلّ مسكر حرام».وروي عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «الخمر من هاتين الشّجرتين: النخلة والعنبة».وروي عن ابن عمر أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «إنّ من العنب خمرا، وإنّ من العسل خمرا، ومن الزّبيب خمرا، ومن الحنطة خمرا، وأنا أنهاكم عن كلّ مسكر».فذلك جميعه يدل على أن الأنبذة تسمّى خمرا فتكون حراما، ويدل على حرمتها- قليلها وكثيرها- ما روي عن عائشة أنها قالت: سئل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عن البتع وعن نبيذ العسل فقال صلّى اللّه عليه وسلّم: «كلّ شراب أسكر فهو حرام» أخرجه البخاري، وما روي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال: «ما أسكر كثيره فقليله حرام».وقد احتجّ العراقيون على أنّ الأنبذة لا تسمّى خمرا، ولا يسمّى خمرا إلا الشيء المشتدّ من ماء العنب باللغة وبالسنة أيضا.أما السنة فما روي عن أبي سعيد الخدري قال: أتي النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم بنشوان فقال له: «أشربت خمرا؟» فقال: ما شربتها منذ حرّمها اللّه ورسوله. قال: «فما شربت؟» قال: الخليطين. قال: فحرّم رسول اللّه الخليطين.فنفى الشارب اسم الخمر عن الخليطين بحضرة النبي صلّى اللّه عليه وسلّم، ولم ينكره عليه. قالوا: ولو كان ذلك يسمّى خمرا لما أقرّه عليه، إذ كان في نفي الاسم الذي علّق به حكم نفي الحكم، والنبي صلّى اللّه عليه وسلّم لا يقرّ أحدا على حظر مباح، أو إباحة محظور.وقد روي عن أنس بن مالك يحدّث عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «الخمر بعينها حرام، والسّكر من كلّ شراب».وأما اللغة فقول أبي الأسود الدؤلي وهو حجة في اللغة: دع الخمر تشربها الغواة فإنّني رأيت أخاها مغنيا بمكانها فإن لا تكنه أو يكنها فإنّه أخوها غذته أمّه بلبانها.وقد ضعّفوا بعض أحاديث الحجازيين، وحملوا الأخرى على أنّ الأنبذة سمّيت خمرا فيها مجازا.قالوا: يدلّ على أنه لا يحرم من الأنبذة إلا ما أسكر ما أخرجه الطحاوي عن أبي موسى قال: بعثني رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنا ومعاذ إلى اليمن، فقلنا: يا رسول اللّه، إنّ بها شرابين يصنعان من البرّ والشّعير أحدهما يقال له: المزّ، والآخر يقال له: البتع فما نشرب؟ فقال عليه الصلاة والسلام: «اشربا ولا تسكرا».قالوا: ويدلّ من جهة النظر لما ذكرناه من أن قليل الأنبذة ليس بحرام أنّ اللّه ذكر في علّة تحريم الخمر قوله: {إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ} فوجب لهذه العلة ألا يحرم من المسكرات إلا القدر المسكر، لأنه هو الذي توجد فيه هذه العلة، ولكن انعقد الإجماع على تحريم قليل الخمر وكثيرها، فوجب أن يبقى قليل الأنبذة على الإباحة.ونحن إذا تأملنا في أدلّة الفريقين ما ذكر منها وما لم يذكر ترجّح عندنا قول الحجازيين، لأنّ الصحابة لمّا سمعوا تحريم الخمر فهموا منه تحريم الأنبذة، وهم كانوا أعرف الناس بلغة العرب ومراد الشّارع. وقد ثبت ذلك من حديث أنس قال: كنت ساقي القوم حين حرّمت الخمر في منزل أبي طلحة، وما كان خمرنا يومئذ إلا الفضيخ، فحين سمعوا تحريم الخمر أهرقوا الأواني وكسّروها، والفضيخ نقيع البسر.وقد اتفقوا مع الحجازيين على أنّ اللّه حرم من عصير العنب الكثير للسّكر، والقليل، لأنّه ذريعة إلى الكثير، فوجب أن يكون كذلك في سائر الأنبذة، حيث لا فارق.
|